اللوحة الكبرى التي تعتلي منطقة القرم التجارية
جسر المشاة في الخوير يكتسي بلوحة حملة الشرطة
اللوحة الكبرى التي تعتلي منطقة القرم التجارية
جسر المشاة في الخوير يكتسي بلوحة حملة الشرطة
قلة هم العمانيون الذين يعملون في مجال الإعلان، وأقل من ذلك بكثير هم العمانيون الذين يعملون في (الأقسام الإبداعية) في وكالات الإعلان (أي في صميم المهنة). إحدى تلك المواهب هي عبير البلوشي التي تعمل محررة عربية في وكالة تي بي دبليو أيه زينة إحدى شركات مجموعة زينة. قامت عبير بكتابة مقال قيم وغني تم نشره يوم أمس في ملحق الجسر الذي تصدره مجموعة الترجمة بالتعاون مع جريدة الشبيبة، غير أنني أرى بأن مقالا كهذا كان من المفترض أن يتم نشره في إحدى مجلات الأعمال المحلية الصادرة باللغة العربية على الأقل ليلفت نظر مجتمع الأعمال العماني إلى أن هنالك مواهب شابة عمانية وراء العديد من الإعلانات المميزة التي نراها بين حين وآخر. عموما لن أطيل الحديث حتى لا يؤثر على جودة وقيمة المقال أدناه.
فكرة وإعلان وأشياء أخرى
يبدأ عملي دون أن أعرف متى سينتهي بالتحديد أو أي اجتماع سأحضر أو أي زبون سيفاجئنا برغبته في تحضير حملةٍ تسويقيةٍ متكاملة في ظرف 24 ساعة! وقد أمكثُ بعد انتهاء ساعات العمل بضع ساعات إضافية للإنتهاء من مراجعة وتدقيق بعض النصوص للنشر أو مشاركة زملائي في "عصف ذهني" أو " تفاكر" لحملةٍ تسويقية أو منتج جديد. ولا أستبعد أبدًل أن يُطلب مني الحضور إلى المكتب نهار يوم الخميس لتدقيق بعض الإعلانات "المستعجلة"، يحدث ذلك كله لكني لا أستطيع التذمر حيث أن المفآجات والمواقف المضحكة والعصيبة في الآن ذاته لاتدع للملل فرصة التسلل إلى أجواء عملي.
أعمل محررة نصوص عربية في "القسم الإبداعي" مع زملاء من خلفيات ثقافية مختلفة، يجلس إلى يميني زميل قادم من الهند وإلى يساري مديري البلغاري، مقابلي زميلة آتية من لبنان وعلى بعد خطوات منها يجلس زميل آخر قادم من بلاد الكنغر تشاركه الطاولة موظفة باكستانية وآخر سيرلانكي وأخيرًا محرر نصوص إنجليزية بريطاني الجنسية، ولكم أن تتخيلوا المواقف المثيرة الناتجة عن العمل مع هذا الخليط الآتي من مختلف بقاع الأرض.
الموسيقى تصدح من كل جانب، السبورة البيضاء مليئة بالشخابيط والتعليقات الطريفة المكتوبة بلغات مختلفة. المشروبات الغازية وعلب القهوة البلاستيكية وبقايا السجائر تملأ سلال القمامة. قصاصات الورق والجرائد والمجلات تتناثر في كل مكان. خلف مقعدي مباشرة توجد شرفة وُضعت فيها طاولة كرة القدم الصغيرة "foosball" يمارس عليها زملائي الشباب اللعب مرة أو مرتين في اليوم لينفضوا عن كاهلهم غبار الملل. ومن يدخل قسمنا في ساعات النهار الأولى سيجد شاشة التلفزيون مفتوحة على قناة سي إن إن الإخبارية، نعم .. لدينا تلفزيون في القسم!
في وكالتنا لا نفرق بين الليل والنهار، وبين الإجازات وأيام العمل الرسمية. كما لا مكان لدينا للهدوء، والروتين، والتفكير المنطقي! وكل ذلك يدفعنا للعمل بجهد وخلق الأفكار الإبداعية ومتابعة كل مايحدث في العالم من حولنا وأداء عملنا بسرعة وإتقان، والأهم من ذلك كله الخروج عن المألوف والسعي لعدم تكرار أنفسنا.
ورغم هذا الجو "الجنوني" إلا أن دفة العمل تسير وفق نظام محدد؛ فالسيناريو الغالب هو كالتالي: يبدي زبون ما رغبته في الترويج لعلامته التجارية فيتواصل مع فريق خدمة العملاء ويحددان موعدًا للاجتماع ومناقشة الأمر، يذهب فريق خدمة العملاء وفريق التخطيط الاستراتيجي لمقابلة الزبون، وبعد عودة الفريقين إلى الوكالة يجتمع الاثنان لمناقشة طلبات الزبون وإجراء البحوث ووضع الخطط اللازمة ومن ثم يقوم فريق خدمة العملاء بكتابة الملخص الإبداعي ''creative brief"، بعدها يُرسل هذا الملخص للزبون للاطلاع والموافقة على ما جاء فيه، وبعد أخذ الموافقة يتواصل فريق خدمة العملاء مع فريق إدارة وتنسيق أعمال قسم الإبداع الذين بدورهم يرسلون الملخص إلى المدير التنفيذي لقسم الإبداع ليطلّع هو الآخر عليه ومن ثم يتم تحديد موعد لاجتماع جميع الأطراف (فريق خدمة العملاء، وفريق التخطيط الاستراتيجي، وفريق إدارة العمل بقسم الإبداع، ومجموعة من موظفي قسم الإبداع وفي العادة هم المدير الإبداعي وعدد من المصممين الفنيين والجرافكيين والمحررين باللغتين العربية والإنجليزية) وقد يختلف الحاضرون وعددهم بحسب طبيعة المشروع وحجمه. خلال الاجتماع يستلم الجميع نسخة من الملخص الإبداعي ثم يتولى أحد موظفي فريق العملاء مهمة شرح الملخص وتحديد ما يجب تنفيذه ويتفق جميع الأطراف على موعد لإنهاء العمل، ومن هنا يبدأ دورنا في القسم الإبداعي: نقرأ الملخص بعناية ومن ثم نبدأ بالنبش عن كل ما نعرفه عن هذه الخدمة أو المنتج. لنفرض مثلاً بأن المنتج عبارة عن سيارة جديدة والمطلوب منا تسويق هذه السيارة التي تم تدشينها في السوق مؤخرًا بطريقة مبتكرة، في هذه الحالة لا نكتفي بالمعلومات المذكورة عن السيارة في الملخص بل نتعدى ذلك بزيارة صالة العرض وتجربة قيادة السيارة بأنفسنا، وينطبق الأمر نفسه على أي منتج أو خدمة أخرى. وبعد أن نتأكد من إلمامنا الكامل بجميع جوانب المشروع يأتي دور "العصف الذهني" وهذه العملية تُجرى في العادة في غرفة صغيرة مفتوحة نطلق عليها فيما بيننا "غرفة المرح"، وبعد أن نتفق على الفكرة والتي تتخذ في العادة مسارين أو ثلاثة يشرع كل واحد منا بأداء عمله حتى يأتي موعد عرض العمل على فريق خدمة العملاء، وبعد شد وجذب بين الفريق الإبداعي وفريق خدمة العملاء ، يتم عرض العمل الإبداعي على الزبون وإن حصلنا على الضوء الأخضر من الزبون يبدء التنفيذ أو الطباعة ليخرج العمل إلى النور، وبين هذه الخطوة وتلك مراحل أخرى يصعب تلخيصها في هذا المقال.
ثمة من يعتقد بأن ترجمة الإعلانات لا تتطلب سوى المقدرة على كتابة كلمات رنانة وحشو النص بالمحسنات البديعية من سجع وخلافه، وثمة من يعتقد بأن المحرر أو المترجم حر في اختيار الكلمات التي يصف أو يصنف بها المنتج أو الخدمة التي يتحدث عنها، أو أن العمل الذي ينتجه ليس بذي أهمية. بيد أن ذلك غير صحيح البتة؛ فعلى مترجم الإعلانات أن يكون مثقفًا، مبدعًا، صبورًا، سريع البديهة، وشديد الملاحظة، كما يجب عليه أن يبذل قصارى جهده للإحاطة بكل ما يتعلق بتصورات و خدمات ومنتجات زبائنه ومنافسيهم وأفكار وتوجهات المستهلكين. فعلى سبيل المثال، ليس من السهل على مترجم الإعلانات استخدام أفعال التفضيل جزافًا كوصف منتج ما بأنه "الأقل سعرًا في السوق" أو "الأكثر جودة" دون الاستناد إلى أدلة تبرهن على ذلك. فالمستهلك اليوم على درجة كبيرة من الوعي والذكاء تؤهلانه للتفريق بين الغث والسمين ولن يلتفت إلى الشعارات الفارغة التي قد تُفقد العلامة التجارية مصداقيتها وبالتالي تؤثر على وضعها في السوق. لذلك يتوجب على مترجم الإعلانات حين يخاطب جمهور القراء أن يعتمد الصدق والبساطة في الوصف والتعبير ويزن كلماته ويحيط بدلالاتها وأن يظل على الحياد دائمًا، فإن كان المترجم لايفقه في لعبة الجولف شيئًا فتلك ليست بحجة كافية لإجحاف الإعلان حقه وعدم بذل الجهد الكافي للخروج بنص جميل بمضمون ممتاز.
لكل مترجم حكاية مع الأخطاء الترجمية، التي تذكرنا على الدوام بأهمية التركيز والتأني في مراجعة النص. ولا أبالغ أن قلت بأن الخطأ الترجمي في مجال الدعاية والإعلان قد يوازي الخطأ في نص طبي أو قانوني. ففي مرة من المرات كنت أترجم بطاقة دعوة لفعالية كبيرة كان من المزمع إقامتها في شهر يونيو، ولتسرعي في الترجمة استبدلت النون باللام ليصبح موعد الفعالية بعد شهر من موعدها الحقيقي! في العادة يجب علي مراجعة أي عمل والتوقيع عليه قبل الطباعة إلا أنني اضطررت في اليوم التالي إلى حضور اجتماع خارج العاصمة ولضيق الوقت تم إرسال بطاقات الدعوة إلى المطبعة دون أن أقوم بمراجعة نص الدعوة. وسبّب ذلك الخطأ بلبلة بين المدعوين الذين أدركوا الخطأ حين قاموا بمقارنة النص العربي بالنص الإنجليزي، إلا أن الأمر – ولله الحمد- مر بسلام لتفهم الزبون للموقف وقمنا بتدارك الخطأ على الفور بإرسال دعوات إلكترونية للمدعوين.
هناك اعتقاد سائد لدى الكثيرين بأن لكل مترجم بصمته وأسلوبه الخاص في التعبير، ولكن العمل في هذا المجال يجبرك في أحايين كثيرة على الترجمة وفقًا لأهواء وثقافة الزبون ومزاجه ، ولكي تنال رضا عملائك ورؤسائك يجب أن تعرف ما يرضي زبائنك وتتبّعه. فهناك الزبون الذي يحب الكلمات المنمقة و آخر يصر على كتابة عنوان لا يقل عن ثلاثة أسطر، وهناك الزبون المريح الذي ما أن يضع ثقته بك لا يناقشك بتاتاً فيما كتبت.
إن العمل كمترجم أو محرر- إن صح القول- في مجال الدعاية والإعلان له مزاياه ومساوئه، فجميل أن تشارك في رسم الخط الإعلاني لخدمة أو منتج جديد، وجميل أن تطاوع ثقافة النص الآخر لتتناسب وثقافة المتلقي، وجميل أن تعلم أن ما سطرته أناملك من كلمات كان له وقع كبير على الجمهور المتلقي وعلى جيب الزبون، وجميل أن تطّلع على عملك منشورًا في صحيفة أو مجلة معينة، أو أن تصادفه في لوحة إعلانية عند عبورك في شارع معين، أو أن تستمع إليه عند تقليبك لمحطات المذياع وأنت تقود سيارتك في شوارع مسقط المزدحمة أو أن تلتفت لتجده في كل مكان حولك!
ولكن ما يتلف الأعصاب أن تجبر على ترجمة نص استغرق كاتبه ثلاثة أيام لكتابته لتدخل أنت في ماراثون مع نفسك وتترجمه في خمس دقائق. ومزعج أن يقوم بتقييم ترجمتك "كل من هب ودب"، ومن المزعج أيضًا أن ترغم على الموافقة على نشر نص بأخطاء لغوية أو إملائية فقط لأن "الزبون عاوز كده"، والويل لك إن حاولت أن تستعرض عضلاتك اللغوية لتكتب كلمة مثل "متكامل" لأن الزبون يعتقد بأن قراء الإعلان لن يفهموا ما تعنيه هذه الكلمة. ومزعج أن تطلب منك جهة معينة أن تقوم بتغيير ترجمة عبارة مثل "Massive Sale" أي"تخفيضات كبرى" وتصر على تغيير كلمة "كبرى" إلى "مميزة "! وإن حاولت أن تنبس بكلمة وتدافع عن حقوق الترجمة المهضومة سيعقد مدير خدمة العملاء حاجبيه ويصرخ في وجهك: "عديّها، ماعندي وقت"!
يقال أن من يعمل في مجال الدعاية والإعلان إما أن يصبح مدمنًا على النيكوتين أو على الكافيين، وبعد مضي عامين من العمل في هذه المجال أستطيع القول بأني أدمنت الأخير!