نزولا عند رغبة بعض المتابعين للمدونة، والذين أعجبوا بمقولة البروفيسور إيفانجيلوس أفندراس: "كيف يمكنك أن تعلم الناس الإبداع بطريقة عادية؟ يجب أن تكون مبدعاً في الأساس". سوف (أعيد) نشر حوار أجريته معه منذ ما يقارب السنتين، كنت حينها أدرس في كلية التجارة والإقتصاد. وقد تم نشر الحوار في ملحق (أنوار) الأسبوعي الذي يصدر عن الجامعة. الحوار ثري بما جمعه العجوز اليوناني من خبرة ومعرفة طيلة ثلاث وأربعين سنة من التعليم... لن أطيل عليكم، وسأدعكم تستمتعون بالحوار كما نُشِر، دون أي تعديل.
(التعليم على أساس المشاكل) يحل مشاكل التعليم
منذ إحدى وأربعين سنة ألقى محاضرته الأولى، لم يكن يعلم أن تلك الطريقة التي اتبعها في تدريس الطلاب ستعرف فيما بعد بـ(التعليم على أساس المشاكل) أو (Problem Based Learning)، ربما لا يكون د. إفانجيلوس أفندراس – رئيس وحدة الاتصال التجاري بكلية التجارة والاقتصاد – هو من ابتكر هذه الطريقة، ولكنه على الأقل يحاول أن يتحدى ثوابت التعليم التقليدي بتوظيف متغيرات المشاكل المعاصرة. هنا نحاول أن نضغط المادة الدسمة التي أفرزها حوارنا مع الدكتور أفندراس لكي تلاءم المساحة أدناه ولنتعرف على هذا التوجه الجديد في التعليم.
تعليم .. مشاكل
في البداية لا بد من معرفة كيف ظهر هذا التوجه الجديد في التعليم، حيث يقول أفندراس أن (التعليم على أساس المشاكل) ظهر بصورته الحقيقية منذ حوالي عشرين سنة في جامعة ماكماستر بكندا، وتحديدا في كلية الطب. بينما يرجع أصلها إلى عادات الناس في الحياة وتعلمهم من أخطائهم والمشاكل التي تواجههم يوميا، بما يمتد إلى العهد السقراطي ونظرياته. أما عن فكرة هذا التوجه فهي تتلخص في توظيف المشاكل المحيطة وتسخيرها لتحقيق أهداف مقرر ما، عوضا عن التوجه التقليدي الذي يتضمن سلسلة المحاضرات مع استخدام الكتاب والامتحانات النمطية التي تمتحن ذاكرة الطالب وليس تفكيره. ففي التعليم على أساس المشاكل يتعلم الطلاب من السياق عن طريق التعامل مع مشاكل العالم الواقعية.
كيف ولماذا؟!
يطبق أسلوب التعليم على أساس المشاكل في مقررات الاتصال التجاري Business Communication بكلية التجارة والاقتصاد، من خلال اختيار مشكلة واحدة يتم تداولها من جميع الجوانب طوال الفصل الدراسي، وما يجعل هذا الأسلوب مميزا هو تدعيمه لمهارات التفاوض عند اختيار المشكلة في أول الفصل مع أهداف المقرر، ومهارات العصف الذهني على مستوى الطلاب، والمناقشة، والتصويت. بعد اختيار المشكلة تشكل مجموعات على مستوى الطلبة وتأخذ كل مجموعة جانبا محددا من المشكلة لدراسته وتحليله وأخيرا الإتيان بحلول افتراضية لتلك المشكلة، تدعم هذه العملية بالعروض التقديمية والبحوث والتقارير وطاولات النقاش ودراسات الجدوى، وغالبا ما يكون الامتحان عبارة عن عملية (تحليل الخيارات) التي تكون في نهاية المقرر. أما في الفصل الماضي فقد تم ابتكار طريقة (امتحان الثلاث محاضرات) حيث كان الامتحان على مستوى المجموعات، قام الطلاب فيه بإعداد دراسة جدوى مشروع متكامل صديق للبيئة بمحافظة البريمي في سياق بيئي ضمن مشكلة المقرر الأساسية (الاحتباس الحراري).
عكس الاتجاه
في غالبية المقررات يكون التعليم (أحادي الاتجاه)، وهذا هو المفهوم الذي يحاول التعليم على أساس المشاكل تغييره. وربما تكون (المذكرات التعليمية Reflective Diaries) من أنجع الوسائل لذلك، حيث تستخدم هذه الأداة لتقييم المدرس وتحسين أدائه وقياس مدى فاعلية طريقة التدريس طوال الفصل. المذكرات التعليمية ببساطة عبارة عن تقرير أسبوعي بسيط يقوم كل طالب بإعداده بعد محاضرات ذلك الأسبوع، وهو وسيلة للطلاب ليعبروا عن آرائهم في المقرر والمدرس، ومدى الاستفادة، والسلبيات والإيجابيات، كما أنها فرصة للطلاب للتعبير عن المشاعر وانتقاد الذات، خصوصا أولئك الانطوائيين الذين يجدون صعوبة في التعبير عما يدور بداخلهم. يمكننا القول بأن المذكرات التعليمية تساعد المدرس على تطوير نفسه وطريقة تدريسه وتدارك بعض الأخطاء الواردة، كما أنها تنمي مهارات الكتابة لدى الطلاب خصوصا أنها باللغة الانجليزية. وربما كانت العقبة الرئيسية هي عدم فاعلية البريد الإلكتروني الجامعي خلال الفصل الماضي، مما أثر سلبا على عملية تلقي تلك المذكرات.
فوائد أكثر .. تعليم أكثر
ما يجعل هذا التوجه أكثر فائدة من التعليم التقليدي هو تطويره لقدرات الطلاب في التعامل مع المشاكل الواقعية على كافة المستويات، كما أنه يذكي روح العمل كفريق وينمي مهارات التواصل المهني (Professional Communication) من خلال المهام التي تطلب من الطالب طوال الفصل الدراسي، كما أن التعليم على أساس المشاكل يفتح المجال أمام الطالب ليكون خلاقا ومبدعا، حيث يؤكد الدكتور أفندراس على ذلك بقوله "كيف يمكن أن تعلم الطلاب الإبداع بطريقة عادية؟ يجب أن تكون مبدعا في الأساس." من الفوائد أيضا أن الطلاب يطلعون على ما يحيط بهم ويكسرون حاجز العزلة بينهم وبين المحيط الخارجي ليتفاعلوا بطريقتهم الخاصة مع المشاكل، مثالا على ذلك: الاحتباس الحراري، وعمان ما بعد النفط، ومشكلة عدم القراءة، والتطور، والحرب على لبنان، واتفاقية التجارة العالمية، والاتحاد العربي. وما يميز هذه الطريقة أيضا هي أنها تناقش المشكلة الراهنة في ذلك الوقت، وهو ما يزيد من أهمية وتفاعلية الطريقة. كما أنها لا تعتمد على المدرس فحسب، بل تتعدى ذلك باستضافة خبراء ومختصين في مجال المشكلة وذلك بهدف تنويع مصادر المعلومات وتغطية كافة جوانب المشكلة. وعن مدى استجابة الطلاب يقول الدكتور أفندراس أن الطلاب يستجيبون بشكل جيد جدا، حيث أنه طوال فترة تدريسه بالجامعة قد لاحظ مدى تطور الطلاب وتفاعلهم مع الطريقة، بالرغم من وجود بعض الحالات التي تفتقر إلى عامل التحفيز، أو تواجه مشاكل في اللغة أساسا، وهو ما يجعل التعليم على أساس المشاكل لديهم.. مشكلة!
مشاكل أم تحديات؟!
ربما ما أعطى الحوار طعما مختلفا نظرة أفندراس الإيجابية للأشياء، فلقد فضل تسمية (المشاكل) التي تواجه التعليم على أساس المشاكل (تحديات)، كان أهمها حسب اعتقاده كيفية التعامل مع الطلاب الذين يواجهون صعوبات في التفاعل مع هذا التوجه، كما أن مستوى اللغة الانجليزية لدى الكثير من الطلاب يحول دون سرعة استجابتهم للمقرر وذلك بسبب ضعف الإعداد في السنة التأسيسية، الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر في مدى كفاءة مقررات السنة التأسيسية وتدعيمها بمقررات تتعلق بمهارات التواصل والقراءة والكتابة. يضاف إلى ذلك أن الطلاب تعودوا على نمطية النظام التقليدي في التعليم وربما يواجهون صعوبة في استيعاب فكرة (مقرر بلا كتاب)، كما أن البعض يراه عبئا زائدا للطلاب والمدرسين حيث تكثر فيه واجبات الطلاب. وقد نبه أفندراس إلى أن بعض المدرسين لا يحبذون الطريقة الجديدة لأن الطريقة التقليدية عبارة عن Package متكامل حيث يرفق مع كتاب المقرر أقراص كمبيوتر وعروض تقديمية يستطيع المدرس أن (ينسخ ويلصق) أسئلة الامتحانات من تلك المرفقات، وقد فضل أفندراس تسمية هذا النوع من المقررات بـ(الأطعمة الجاهزة) بلد المنشأ فيها يكون مختلفا عن ثقافة البلد التي يدرس فيها ذلك المقرر. ويعترف أفندراس بأن التعليم على أساس المشاكل يشكل عبئا زائدا للطلاب والمدرسين، ولكنه يجلب المزيد من الرضا عن النفس للطرفين بعد نهاية المقرر.
نظرة على المستقبل
بقي أن نستشرف ما يحمله المستقبل من تطورات لهذا التوجه في التعليم، حيث يقول أفندراس بأن التعليم على أساس المشاكل يمكن أن يدعم بالتطبيقات الإلكترونية كالنقاشات الإلكترونية والتعليم عن بعد بصورة تسهل عملية التواصل بين الطلاب والمدرس. أما عن مدى قابلية تطبيق هذه الطريقة على المقررات الأخرى يقول أفندراس أن الطريقة متبعة أصلا في مواد مختلفة بالجامعة كمواد الاتصال التجاري والإدارة بكلية التجارة والاقتصاد، وكلية الطب والعلوم الصحية حيث الطلاب يتعلمون من خلال تعاملهم مع المرضى، وهي تعتمد أصلا على طبيعة المادة نفسها وما إذا كان المدرس يؤمن بهذه الطريقة ويرى في نفسه القدرة على تطبيقها. ويقترح أفندراس إقامة حلقات عمل لمناقشة هذا التوجه ومدى إمكانية تعميمه على مقررات مختلفة داخل الجامعة، كما أن تبادل الخبرات من شأنه الارتقاء بهذا التوجه خاصة وأنه ما زال حديث العهد.